شهدت السياسة التجارية الأمريكية في الآونة الأخيرة تحولات ملحوظة أثارت جدلًا واسعًا على الساحة الدولية. أعلن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عن تعليق مؤقت للرسوم الجمركية الإضافية لمدة 90 يومًا، لكن دون أن يشمل هذا القرار الصين. في المقابل، صعّدت بكين من حدة إجراءاتها، معلنةً عن فرض رسوم على واردات أمريكية. هذا التوتر يعيد إلى الواجهة قضايا الحرب التجارية، وتأثيراتها المتوقعة على الاقتصاد العالمي.
خلفية القرار الأمريكي
في مطلع مارس 2025، أصدر ترامب بيانًا يُعلن فيه تعليق الرسوم الجمركية الإضافية التي فُرضت سابقًا على بعض الواردات من المكسيك وكندا. جاء هذا التعليق في سياق ضغوط داخلية ودولية لمعالجة التوترات التجارية، لا سيما مع دول الجوار. يُفهم من هذا القرار أنه يهدف إلى إعطاء فرصة لإعادة التفاوض وتحسين العلاقات الاقتصادية الثنائية.
لكن الملف الصيني أخذ منحى مختلفًا. لم يشمل القرار أي تخفيف تجاه بكين، بل على العكس، شهد التصعيد منحى جديدًا تمثل في فرض الصين رسومًا جمركية جديدة على واردات أمريكية استراتيجية، من ضمنها النفط الخام والمركبات والآلات الزراعية.
دلالات التصعيد ضد الصين
تصر واشنطن على تقليص العجز التجاري مع الصين، معتبرة أن الأخيرة تمارس ممارسات غير عادلة في التجارة، مثل دعم الصادرات وتقييد دخول الشركات الأجنبية إلى السوق الصينية. لذا، جاءت الإجراءات الصينية كرد فعل مباشر على ما وصفته بـ”العداء التجاري المتجدد”.
وقد فرضت بكين رسومًا بنسبة 10% على مجموعة من المنتجات الأمريكية الحيوية. استهدفت هذه الإجراءات قطاعات النفط والطاقة، إلى جانب معدات زراعية ومركبات النقل، ما يُعد ضربة موجعة للمزارعين والصناعيين في ولايات تعتبر تقليديًا داعمة لترامب.
تداعيات اقتصادية على المدى القصير
يتوقع خبراء الاقتصاد أن يؤدي هذا التصعيد إلى اضطراب في الأسواق المالية. وعادة ما تتفاعل البورصات بشكل سلبي مع أخبار الحروب التجارية. إذ ترتفع حالة عدم اليقين، ويتردد المستثمرون في اتخاذ قرارات طويلة الأجل.
التأثير على الشركات والمستهلكين
كما أن تعليق الرسوم لمدة 90 يومًا لن يكون كافيًا لاستعادة الثقة. بل يُنظر إليه كخطوة تكتيكية، الهدف منها كسب الوقت، دون معالجة جوهر المشكلة القائمة. وهنا تبرز الحاجة إلى سياسة تجارية أكثر استقرارًا.
يتضرر المستهلك الأمريكي بشكل مباشر من تصاعد الرسوم، حيث ترتفع أسعار السلع المستوردة. كذلك، تُجبر الشركات على إعادة هيكلة سلاسل التوريد، ما قد يزيد من تكاليف التشغيل. ومن جهة أخرى، فإن الشركات الصينية التي تعتمد على السوق الأمريكية ستعاني من تراجع الطلب. كما قد تخسر مزاياها التنافسية أمام منافسين من دول أخرى لم تشملها الرسوم.
مستقبل العلاقات التجارية
من غير الواضح ما إذا كان التعليق المؤقت سيمهد لحل شامل. لكن من المؤكد أن استمرار التصعيد مع الصين لن يخدم مصالح أي من الطرفين. فالعلاقات التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم تُعد حجر الزاوية في استقرار الاقتصاد العالمي.
قد تسعى الولايات المتحدة إلى إعادة التفاوض على اتفاقياتها التجارية، وربما تلجأ إلى أطراف وسيطة مثل منظمة التجارة العالمية. مع ذلك، تبقى لغة العقوبات والرسوم الأكثر حضورًا في السياسة الترامبية.
كيف تستفيد دول أخرى من النزاع؟
في ظل التوتر بين واشنطن وبكين، تبرز فرص أمام دول أخرى لتعزيز مكانتها التجارية. فالدول المصدّرة للنفط مثل روسيا أو دول الخليج قد تجد فرصة لزيادة صادراتها إلى الصين. كذلك، يمكن لدول أمريكا اللاتينية أن تستفيد من الطلب المتزايد على المنتجات الزراعية.
كما تسعى بعض الدول الآسيوية مثل فيتنام وتايلاند إلى استقطاب الشركات التي تغادر الصين بسبب الرسوم الأمريكية. وهذا التحول قد يعيد تشكيل سلاسل الإمداد العالمية.
الرسوم التجارية وتأثيرها على الاقتصاد العالمي
ارتبطت الحروب التجارية تاريخيًا بتباطؤ اقتصادي عالمي. فزيادة الحواجز أمام التجارة تُقيد حركة السلع وتخفض الإنتاج. كما تؤثر سلبًا على الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
خيارات السياسة الاقتصادية الأمريكية في ظل التصعيد التجاري مع الصين
تتعدد الخيارات التي قد تواجهها السياسة الاقتصادية الأمريكية في ظل التصعيد المستمر مع الصين، ولكل خيار تأثيرات مختلفة على الاقتصاد الأمريكي والدولي. من أجل تحقيق أهدافها الاقتصادية والجيوسياسية، يتعين على الولايات المتحدة اتخاذ قرارات حاسمة في إدارة العلاقة التجارية مع الصين.
- استمرار سياسة الضغط عبر الرسوم الجمركية
أحد الخيارات التي يمكن أن تعتمدها الولايات المتحدة هو الاستمرار في سياسة فرض الرسوم الجمركية على الواردات الصينية. هذه السياسة تهدف إلى تقليص العجز التجاري مع الصين وتعزيز الصناعة الأمريكية. يمكن أن تُعتبر هذه الطريقة فعّالة على المدى القصير في تحسين بعض الصناعات المحلية، مثل التصنيع والزراعة.
ولكن، مع مرور الوقت، قد تؤدي هذه السياسة إلى زيادة الأسعار للمستهلك الأمريكي. كما أن الشركات الأمريكية قد تواجه صعوبة في إيجاد بدائل ذات تكلفة معقولة للمنتجات الصينية. في هذا السياق، من المتوقع أن يتأثر المستهلكون بشكل مباشر، مما يؤدي إلى انخفاض القوة الشرائية ويؤثر على النمو الاقتصادي الداخلي.
- العودة إلى مفاوضات تجارية جديدة
يمكن للولايات المتحدة أن تختار التفاوض مع الصين من أجل التوصل إلى اتفاق تجاري جديد. هذا الخيار قد يتضمن تقديم تنازلات في بعض المجالات مثل حقوق الملكية الفكرية، وفتح السوق الصينية أمام الشركات الأمريكية بشكل أكبر. قد تسعى الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في بعض الرسوم الجمركية، خاصة تلك التي تستهدف السلع الاستهلاكية، بهدف التخفيف من تأثيرها على المستهلكين.
ومع ذلك، قد يكون هذا الخيار صعبًا نظرًا للتوترات السياسية الكبيرة بين البلدين، فضلاً عن تعقيدات العلاقات التجارية. كما أن الصين قد تشترط على الولايات المتحدة التراجع عن بعض الإجراءات بشكل كامل قبل الدخول في مفاوضات جديدة، مما يعقد الأمور أكثر.
- التركيز على دعم الصناعة المحلية
خيار آخر قد يختاره البيت الأبيض هو تعزيز دعم الصناعة الأمريكية لتقليل الاعتماد على المنتجات الصينية. يتضمن ذلك تقديم حوافز ضريبية وإعانات مالية للشركات الأمريكية التي تنتج محليًا بدلاً من الاستيراد.
ردود الأفعال الدولية
لاقى قرار ترامب ردود أفعال متباينة. فقد رحّبت بعض الدول الأوروبية بتعليق الرسوم على كندا والمكسيك، واعتبرته خطوة إيجابية. في المقابل، عبّرت الصين عن رفضها لسياسات الضغط، وأكدت أنها سترد على أي تصعيد بطريقة مناسبة.
وقد دعت منظمات دولية مثل صندوق النقد والبنك الدولي إلى تجنب الحروب التجارية، محذّرة من آثارها على معدلات النمو العالمي.
يعكس قرار ترامب بتعليق الرسوم الإضافية على بعض الدول، مقابل التصعيد تجاه الصين، استمرار النهج التصادمي في السياسة التجارية الأمريكية. كما يُظهر حجم التحديات التي يواجهها النظام التجاري العالمي، في ظل غياب آلية واضحة لحل النزاعات.
في هذا السياق، يبدو أن التوازن بين حماية الاقتصاد المحلي والانخراط في التجارة العالمية لا يزال بعيد المنال. ويبقى الترقب سيد الموقف، بينما تتابع الأسواق والشركات والمستهلكون تأثيرات هذه السياسات على حياتهم اليومية.