في غضون أسبوع واحد فقط، شهد الدولار الأمريكي تحولًا جذريًا من ملاذ آمن إلى نقطة ضعف للمستثمرين. كانت الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على كل من الأصدقاء والأعداء بمثابة ضربة قوية. فقد قوضت هذه الإجراءات الفوضوية الثقة التي تم بناؤها على مدار عقود في الدولار الأمريكي كعملة احتياطية عالمية. كانت هذه التغيرات في السياسة التجارية سببًا رئيسيًا في التأثير على الأسواق المالية العالمية.
لم يكن فقدان الثقة في الدولار أكثر وضوحًا من سوق سندات الخزانة الأمريكية. فبحسب التقارير، شهدت تكاليف الاقتراض في السوق الأمريكية أكبر زيادة أسبوعية منذ عام 1982. هذا كان بمثابة مؤشر على هروب الأموال الخارجية التي كانت تعتمد على الدولار الأمريكي في السابق كملاذ آمن. ونتيجة لذلك، سجل الدولار أدنى مستوى له في عقد من الزمن مقابل الفرنك السويسري، وتراجعت قيمته أمام اليورو إلى أضعف مستوى له في أكثر من ثلاث سنوات.
تحديات الدولار الأمريكي
يقول راي أتريل، رئيس استراتيجية الصرف الأجنبي في بنك أستراليا الوطني: “يبدو أن الولايات المتحدة فقدت، بين عشية وضحاها، سماتها كملاذ آمن”. وأضاف أن هذه التغيرات في الثقة جاءت نتيجة للقرارات التجارية المتسارعة التي اتخذها الرئيس ترامب. ويُشير أيضًا إلى أن “الاقتصاد الأمريكي قد يكون المتضرر الأكبر في المستقبل القريب بسبب الرسوم الجمركية”.
لقد مر الدولار الأمريكي بفترات من التحديات في السابق، ولكن هذه المرة كان الأمر مختلفًا. بعد تراجع نظام “بريتون وودز” في السبعينيات، ظل الدولار مهيمنًا على أسواق العملات. في عام 1944، عززت اتفاقيات “بريتون وودز” مكانة الدولار كعملة احتياطية، مما دفع العالم إلى أن يضع الثقة في الدولار الأمريكي على مدار عقود طويلة. ومع ذلك، فإن تصرفات ترامب الأخيرة حول التجارة فرضت تحديًا غير مسبوق على هذه المكانة. فقد فرض رسومًا جمركية كبيرة على العديد من الدول، ثم تراجع عن بعض قراراته بشكل مفاجئ، مما أثار تساؤلات حول مصداقية الإدارة الأمريكية.
تبعات الرسوم الجمركية على الأسواق العالمية
في ظل هذه التغيرات، شهدت الأسواق العالمية انخفاضًا حادًا في القيمة السوقية للأسهم.
حيث تم خسارة تريليونات الدولارات من القيم السوقية. الأسواق العالمية دخلت في حالة من الاضطراب، مما انعكس بشكل كبير على القوة الاقتصادية لأمريكا. وقال ريتشارد يتسينغا، كبير الاقتصاديين في مذكرة له: “لقد تآكلت سمعة الولايات المتحدة في الساحة الدولية”. وأضاف: “لقد أصبح الاقتصاد العالمي في وضع أكثر هشاشة من أي وقت مضى بعد فرض الرسوم الجمركية”.
إلى جانب هذا، بيّن مارتن ويتون، رئيس استراتيجية الأسواق المالية في بنك “ويستباك”، أن الفروق الكبيرة في أسعار مقايضة الدولار الأمريكي، والانخفاض المفاجئ في عوائد سندات الخزانة الأمريكية.
والبيع المكثف للعملة الأمريكية أظهروا “تراجعًا في السيولة والأمان”. فالدول التي كانت تعتمد على الدولار كأداة احتياطية أصبحت الآن أكثر حذرًا. ومن الجدير بالذكر أن الوضع وصل إلى مرحلة تجعل الولايات المتحدة مضطرة الآن لدفع مبالغ أكبر للمستثمرين لاقتراض الأموال مقارنةً بدول مثل إيطاليا أو إسبانيا أو اليونان.
تحليل النظرة المستقبلية للدولار الأمريكي
على الرغم من هذه الظروف، يرى البعض أن تراجع الدولار قد يكون مؤقتًا. وفقًا لما قاله فرانسيس تان، كبير الاستراتيجيين لشؤون آسيا في شركة “إندوسويز” لإدارة الثروات، “بمجرد زوال حالة عدم اليقين، سنرى الدولار يستعيد قوته”. يُضيف تان أن فرض الرسوم الجمركية قد يصبح “الوضع الطبيعي الجديد” في المستقبل، مما يعني أن الدولار قد يعود إلى مكانته السابقة في المستقبل القريب.
لكن حتى وإن كان التراجع مؤقتًا، فإن أي تآكل في مكانة الدولار كملاذ آمن يُعدّ خبرًا سيئًا للمستثمرين. فمنذ عقود طويلة، كان الدولار هو الخيار الأول للمستثمرين الدوليين. بالنسبة لأولئك الذين استثمروا تريليونات الدولارات في الأسواق الأمريكية المزدهرة، فإن الانخفاض الحاد في قيمة الدولار قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة لفترة أطول. هذا سيزيد من ضغوط الأسعار في الداخل، مما يؤثر سلبًا على السندات والأسهم.
الدولار في مقابل العملات الأخرى
حاليًا، تتزايد المخاوف بشأن مستقبل الدولار الأمريكي كعملة احتياطية. ففي الوقت الذي يتحدث فيه الجميع عن تراجع الدولار وفقدانه لمكانته في الأسواق العالمية.
يبدو أن المتداولين في أسواق العملات الأجنبية أصبحوا في حالة من التشاؤم تجاه العملة الأمريكية. يُعتبر المتداولون في أسواق الفوركس الأكثر تشاؤمًا تجاه الدولار الأمريكي منذ خمس سنوات. وهو أمر طبيعي، حيث يُعتبر التباين بين السعر والعقود الآجلة في أسواق العملات من المؤشرات التي تنبئ بالقرب من القمة أو القاع. ولكن، من ناحية أخرى، قد يكون هذا التباين في الوقت نفسه بمثابة علامة تحذير على أن الأسواق قد تكون على وشك التصحيح.
هل سيتعافى الدولار؟
بالرغم من تلك التوقعات السلبية، تظل هناك بعض الأسباب التي قد تدفع الدولار الأمريكي إلى التعافي في المدى القصير. يمكن أن تساهم الإشارات الإيجابية في المفاوضات التجارية مع الصين في تهدئة التوترات بين أكبر اقتصادين في العالم. إذا هدأت الأوضاع بشكل عام، قد يؤدي ذلك إلى تلاشي التوقعات المتعلقة بتخفيضات أسعار الفائدة، مما قد يعزز من قيمة الدولار في الأسواق المالية. في الوقت ذاته، لا يمكن استبعاد احتمال أن يتخذ الاحتياطي الفيدرالي قرارًا برفع أسعار الفائدة.
وهو ما سيؤثر بشكل إيجابي على الدولار الأمريكي.
توقعات مؤشر الدولار الأمريكي
يشير التحليل الفني إلى أن مؤشر الدولار الأمريكي (DXY)، الذي يقيس أداء العملة الأمريكية مقابل سلة من ست عملات رئيسية، يواصل انخفاضه. حالياً، يتداول مؤشر الدولار عند مستوى 100.40، مما يعكس استمرار الاتجاه الهبوطي. ورغم الضغط الهبوطي، فإن هناك بعض المؤشرات التي تشير إلى إمكانية حدوث تصحيح صعودي قريبًا.
على الجانب السلبي، من المتوقع أن يواجه الدولار دعمًا عند المستوى النفسي 100.00، يليه 99.76، وهو أدنى مستوى للمؤشر منذ أبريل 2022. أما على الجانب الإيجابي، فإن التحرك نحو المتوسط المتحرك الأسي لفترة تسعة أيام قد يُسهم في تعزيز الزخم الصعودي. ومع ذلك، يبقى التركيز على منطقة المقاومة الرئيسية التي تقترب من 104.37، وهو أعلى مستوى شهري.
فرصة للدولار في التعافي إذا استقرت الأسواق
تبدو التوقعات المستقبلية للدولار الأمريكي معقدة. في الوقت الحالي، يظهر الدولار ضعفًا كبيرًا نتيجة للسياسات التجارية الفوضوية التي انتهجها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. هذه السياسات تسببت في تراجع الثقة بالدولار كملاذ آمن وأثرت على مكانته كعملة احتياطية. ومع ذلك، لا تزال هناك فرصة للدولار في التعافي إذا استقرت الأسواق وعادت التوقعات الاقتصادية إلى الاستقرار. سيتعين على المستثمرين متابعة تطورات الأوضاع بعناية. قد تستمر التقلبات في الأسواق المالية في التأثير على الدولار، ولكن في النهاية، تبقى القوى الاقتصادية والسياسية الكبرى في العالم هي التي ستحدد مستقبل هذه العملة الاستراتيجية.