في خطوة تعكس التحولات الجذرية في المشهد الاقتصادي العالمي، أعلنت مجموعة سيتي جروب عن مراجعة شاملة لتصنيفاتها الخاصة بالأسهم العالمية، حيث خفّضت تصنيف السوق في أمريكا من “زيادة الوزن” إلى “محايد”، في حين رفعت من تصنيف كل من السوق اليابانية وسوق المملكة المتحدة إلى “زيادة الوزن”. تأتي هذه التعديلات في ظل مشهد اقتصادي يتسم بالغموض، وضغوط على الأرباح، وتغيرات في السياسات التجارية العالمية.
خفض التصنيف الأمريكي: مخاطر متعددة في الأفق
بحسب تقرير صدر عن المحللين في سيتي تحت عنوان “النظام العالمي الجديد”، فإن قرار خفض التصنيف الأمريكي يعود إلى مزيج من العوامل، أبرزها التقييمات المرتفعة لأسعار الأسهم، حالة عدم اليقين الاقتصادي، والضغوط المستمرة التي تواجه الشركات فيما يتعلق بالأرباح. وأشار التقرير إلى أن السوق الأمريكية لا تزال تتداول عند مستويات تقييم تاريخية مرتفعة، تقارب النسبة المئوية الـ80 مقارنة بالمعدلات التاريخية، ما يجعلها أكثر عرضة للتقلبات.
ويضيف المحللون أن تأثير الرسوم الجمركية، رغم ما يبدو من تهدئة مؤقتة بعد اتفاق تجاري مؤقت دام 90 يومًا، لا يزال يشكل خطرًا حقيقيًا على النمو الاقتصادي الأمريكي، وربحية الشركات على وجه الخصوص. فحتى في ظل هذا التوقف المؤقت للقيود التجارية، ترى سيتي أن الولايات المتحدة معرضة لتباطؤ اقتصادي أكبر إذا لم يتم التوصل إلى حلول دائمة ومستقرة.
مؤشرات الركود تضغط على الأسواق في أمريكا
بيّنت سيتي في تقريرها أن مؤشر مراجعة الأرباح الخاص بها وصل إلى مستوى “ركودي” بلغ -40%، ما يُعد إشارة سلبية للغاية بشأن مستقبل الأرباح للشركات الأمريكية. كما خفّضت سيتي توقعاتها لنمو الأرباح العالمية من 10% إلى 4% فقط، في ظل التحديات الراهنة. ويُقدّر أن الرسوم الجمركية وحدها قد تقتطع نحو ست نقاط مئوية من نمو ربحية السهم ضمن مؤشر MSCI العالمي لهذا العام، ما يعزز المخاوف من تراجع حاد في أداء الأسواق العالمية إذا لم تتم معالجة هذه العوامل.
الضغوط الاقتصادية تُعيد ترتيب أولويات المستثمرين
لم تعد السوق الأمريكية الوجهة الوحيدة التي تجذب المستثمرين كما كانت سابقًا. في السنوات الأخيرة، قدّمت الولايات المتحدة أداءً مميزًا في مختلف مؤشرات الأسهم. لكن الوضع الآن بدأ يتغير بسرعة. ارتفعت التقييمات بشكل مبالغ فيه، بينما تزايدت التوقعات بتباطؤ اقتصادي واضح. في الوقت ذاته، تراجعت ربحية الشركات نتيجة تأثير السياسات التجارية الأخيرة.
من جهة أخرى، لم تنجح الإجراءات المؤقتة في إيقاف التوترات بين واشنطن وبكين. رغم بعض التفاهمات، لا تزال الرسوم الجمركية تمثل تهديدًا مباشرًا للنمو الأمريكي. لذلك، أصبح كثير من المستثمرين أكثر حذرًا في التعامل مع الأسهم الأمريكية. بالإضافة إلى ذلك، أشارت تقارير “سيتي” إلى ضعف في مؤشرات الأرباح المستقبلية. مؤشر مراجعة الأرباح بلغ مستوى سلبيًا يعكس احتمال الدخول في مرحلة ركود.
تسعى الشركات الأمريكية للحفاظ على أرباحها، لكنها تواجه تحديات متزايدة في الأسواق العالمية.
وبينما تتراجع الثقة في استمرار الزخم الأمريكي، تتجه الأنظار نحو أسواق أخرى أكثر استقرارًا. على سبيل المثال، يرى محللو “سيتي” أن السوق اليابانية تقدم فرصًا استثمارية أفضل. علاوة على ذلك، تتمتع اليابان بعلاقات تجارية أكثر استقرارًا مع الولايات المتحدة. في المقابل، تتداول الأسهم اليابانية عند تقييمات أقل بكثير من نظيرتها الأمريكية. كما أظهرت المملكة المتحدة مرونة واضحة أمام التقلبات، خاصة في ظل طبيعة سوقها الدفاعية.
لهذا السبب، يُعاد توزيع الاستثمارات الآن نحو تلك الأسواق ذات المخاطر الأقل والعوائد المحتملة.
يبدو أن ما يُعرف بـ”الاستثنائية الأمريكية” لم يعد واقعًا مضمونًا في المرحلة المقبلة. العديد من المستثمرين بدأوا في إعادة التفكير في استراتيجياتهم بناءً على هذه المعطيات. وبينما تستمر الولايات المتحدة في مواجهة الضغوط، تبرز أسواق بديلة في واجهة المشهد العالمي.
الاستراتيجية القطاعية: توازن بين النمو والدفاع
أما على صعيد القطاعات، فتتبع سيتي استراتيجية توازن دقيقة، مع إعطاء الأولوية لقطاعات محددة وفقًا لطبيعتها وموقعها من الدورة الاقتصادية. فيُعتبر قطاع التكنولوجيا هو المفضل من حيث النمو، بينما تبرز الخدمات المالية كخيار دوري، وتبقى الرعاية الصحية كأفضل خيار دفاعي في ظل التقلبات.
الرهان الجديد: اليابان والمملكة المتحدة
في المقابل، ترى سيتي فرصًا استثمارية مغرية في كل من اليابان والمملكة المتحدة.
حيث تم رفع تصنيف أسهم البلدين إلى “زيادة الوزن”. وجاء هذا القرار نتيجة لمجموعة من العوامل، أبرزها انخفاض التقييمات السوقية، وانخفاض مستوى المخاطر الجيوسياسية والتجارية، مقارنةً بالولايات المتحدة.
ففي اليابان، على سبيل المثال، تُتداول الأسهم عند مضاعف تقييم يبلغ 15 مرة فقط على مدى السنوات الـ25 الماضية، مما يجعلها جذابة من حيث القيمة.
خاصة بعد أن تم تسعيرها بالفعل ضمن سيناريوهات ربحية سلبية. كما أشار محللو سيتي إلى أن اليابان “من المحتمل أن تنجح في تفادي الرسوم الجمركية الأمريكية بفضل المفاوضات الثنائية”، وهو ما يضيف عنصر أمان إضافي للمستثمرين في السوق اليابانية.
أما في المملكة المتحدة، فإن العوامل الجاذبة تشمل التقييمات المنخفضة بشكل ملحوظ، بالإضافة إلى الطبيعة الدفاعية للسوق، والتي تجعلها أقل تأثرًا بالتقلبات الحادة في الاقتصاد العالمي. وتقول سيتي إن هذه الطبيعة قد تُمكّن السوق البريطانية من الصمود في وجه أي اضطرابات مالية أو اقتصادية عالمية قادمة.
أوروبا القارية والأسواق الناشئة: بين الدعم والتحفظ
ورغم التحفظ تجاه السوق الأمريكية، احتفظت سيتي بتصنيف “زيادة الوزن” تجاه الأسواق الأوروبية القارية.
مدفوعة برياح التحفيز المالي المواتية وتوقعات بخفض إضافي في أسعار الفائدة من البنك المركزي الأوروبي. وتعتقد سيتي أن هذه السياسات الداعمة يمكن أن تخلق بيئة مواتية لتعافي الأسهم الأوروبية على المدى المتوسط.
على الجانب الآخر، تم خفض تصنيف أسهم الأسواق الناشئة إلى “أقل من الوزن”، في خطوة تعكس المخاوف المتزايدة بشأن تعرض هذه الأسواق – لا سيما الصين – لتأثيرات الرسوم الجمركية المرتفعة والمستمرة. فبرغم التقدم الذي أُحرز مؤخرًا في المحادثات التجارية بين الصين والولايات المتحدة.
لا تزال التوترات التجارية قائمة، وهو ما قد يعيق الأداء الاقتصادي في العديد من هذه الأسواق.
تفاؤل مشروط بمحادثات التجارة
رغم النظرة الحذرة التي تُبديها سيتي تجاه العديد من الأسواق.
إلا أن هناك مساحة للتفاؤل المشروط بتحسن المحادثات التجارية بين الولايات المتحدة والصين. إذ ترى سيتي أن حدوث تقدم ملموس في هذا الجانب قد يُحدث انتعاشًا كبيرًا في السوق، وقد يؤدي إلى تحول في المزاج الاستثماري العالمي قبل نهاية العام.
ووفقًا لتوقعاتها، فإن هدف سيتي لمؤشر MSCI All-Country World Index يبلغ 1050 نقطة، ما يشير إلى إمكانية تحقيق مكاسب تصل إلى 12%، إذا ما توافرت الظروف الملائمة لذلك، وعلى رأسها التهدئة التجارية.